
في الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون المؤسسات الإعلامية العمومية منارات للتنوير والتثقيف والرقابة، يجد المتابع نفسه أمام سؤال مُلح: هل تقوم هذه المؤسسات فعلاً بدورها في ترسيخ قيم الديمقراطية والحكامة الرشيدة، أم أنها لا تزال حبيسة عقلية الوصاية والرسائل الموحدة التي تُعيد إنتاج نفس الخطاب الرسمي منذ عقود؟
الإعلام العمومي، بحكم تمويله من المال العام، ليس ملكًا لحكومة عابرة ولا لطاقم إداري مؤقت، بل هو واجهة وطن، ومسؤولية اجتماعية، وأداة أساسية لصناعة الوعي. ومع ذلك، كثيرًا ما تتحوّل نشراته وبرامجه إلى مجرّد نشرات مديح وإشادة، تُلمِّع المسؤول وتُخفي الخلل، بدل أن تفتح الملفات، وتُضيء الزوايا المعتمة، وتمنح الكلمة للمواطن البسيط الذي يدفع من ضرائبه ميزانية هذه المؤسسات.
التنوير الحقيقي لا يكون بقراءة نصوص طويلة عن الإنجازات، بل بطرح الأسئلة الحرجة، واستضافة الرأي والرأي الآخر، والاعتراف بالقصور قبل الحديث عن النجاح. أما التثقيف، فهو ليس برامج موسمية عن التراث والمناسبات الوطنية، بل هو عملٌ يومي يزرع قيم المواطنة، ويُعزّز احترام القانون، ويُقرب المواطن من دوائر صنع القرار، ويُعرّفه بحقوقه وواجباته بعيدًا عن لغة الخوف والفوقية.
ترسيخ الديمقراطية يحتاج إلى إعلام يراقب، لا يُصفّق؛ يكشف، لا يُبرّر. إعلام يُفسِح المجال للتحقيقات الميدانية، ويُسلّط الضوء على ملفات الفساد، وسوء التسيير، واختلال توزيع الموارد، دون انتقائية ولا انتقام. فالحكامة الرشيدة تبدأ من الشفافية، والشفافية لا تتحقق ببيانات رسمية مصقولة، بل بعمل صحفي جريء، ميداني، متوازن، يستند إلى الأرقام والوثائق والقصص الحقيقية من قلب المجتمع.
ثمّة جهود تُبذل هنا وهناك، وهناك طاقات بشرية محترمة داخل المؤسسات العمومية ترغب في التجديد والمهنية، لكنّ المشكلة غالبًا تكمن في السقف المسموح، وفي الخوف من الاصطدام بـ”الخطوط الحمراء” التي تُحدَّد سياسيًا لا مهنيًا. والنتيجة: إعلامٌ عموميٌ بلا روح نقدية، يلهث وراء الأحداث بدل أن يصنعها، ويكتفي بتجميع الأخبار بدل تحليلها.
اليوم، ومع تطور المشهد الرقمي وتنامي الصحافة المستقلة وصفحات المواطن الصحفي، باتت الحاجة ملحّة لإعادة تعريف وظيفة الإعلام العمومي: هل سيظل بوقًا رسميًا يُعيد نشر البلاغات؟ أم أنه سيواجه شجاعة التحول إلى سلطة رابعة حقيقية؟
إن إصلاح الإعلام العمومي يبدأ من الاعتراف بأن التنوير ليس امتيازًا، بل واجب. أن التثقيف ليس ترفًا، بل ضرورة وطنية. وأن الديمقراطية والحكامة الرشيدة ليست شعارات تُرفع في المناسبات، بل منظومة قيم تُبنى يومًا بعد يوم، على أعين الناس، وبالكلمة الحرة التي لا تُشترى ولا تُخيف.
وعندما يصل الإعلام العمومي إلى هذه المرحلة، سنشهد مجتمعًا أكثر وعيًا، ودولة أكثر شفافية، ومواطنًا يشعر بأنه شريك لا مجرد متلقٍ صامت. أما قبل ذلك، سيظل النقد واجبًا، والأمل ممكنًا، والإصلاح ضرورة لا تقبل التأجيل.
