
تُقدَّم الجمارك الموريتانية، في خطابها الرسمي، باعتبارها “ركيزة إستراتيجية للاقتصاد الوطني” و”حارس الحدود” و”أداة الدولة في ضبط حركة البضائع والتحصيل الجبائي”. الموقع الرسمي يشرح بالتفصيل تنظيم المكاتب، ومهام التفتيش والمراقبة، ومكافحة التهريب، ويعرض إحصاءات سنوية ورسومًا بيانية تبعث على الاطمئنان النظري بأن المؤسسة تعمل وفق معايير واضحة ومهيكلة.
على الورق، الصورة شبه مثالية:
• مراقبة حركة البضائع ووسائل النقل والأشخاص برًّا وبحرًا،
• فحص الشحنات وتفتيش الحقائب،
• تطبيق مدونة الجمارك لسنة 2017 بما تتضمنه من قواعد ورسوم وحماية للمنتج الوطني،
• جهاز من الضباط والمفتشين يخضع لنظام أساسي خاص، صُمّم – كما تقول النصوص – لضمان الانضباط والنجاعة.
الأرقام بدورها تبدو لافتة: فإيرادات الجمارك قفزت من أكثر من 212 مليار أوقية قديمة سنة 2020، رغم تأثير جائحة كورونا على التجارة، إلى حوالي 336 مليار أوقية قديمة سنة 2024، حسب تصريحات متتالية لوزراء المالية في الاحتفال باليوم الدولي للجمارك. 
هذه القفزة تُقدَّم رسميًا على أنها “نجاح جماعي يستحق الإشادة”، ودليل على تطوير آليات التحصيل وتحسين أداء الجهاز.
كما أن الإدارة تتحدث اليوم عن “جمارك جديدة” تدخل عصر الرقمنة: أنظمة معلوماتية من نوع “سِيدونْيا” للتخليص عن بعد، إتاحة بعض الخدمات عبر بوابات إلكترونية وطنية، وصفحة نشِطة على فيسبوك تنشر البلاغات عن عمليات ضبط وبيانات التهنئة في الأعياد، وتُشيد بـ”شفافية الإجراءات” وسرعة الخدمات.
كما صادق مجلس الوزراء سنة 2025 على نظام أساسي جديد للجمارك، يُفترض أن يُعيد تنظيم المسار المهني لأفراد السلك، ويُقارب وضعهم بوضع الأجهزة الأمنية وشبه العسكرية الأخرى، في خطوة تُسوَّق على أنها تعزيز للاحترافية والانضباط.
المواطن والتاجر والمستثمر لا يحاسبون الجمارك على بلاغاتها، بل على أثرها في الواقع. وهنا تبدأ الأسئلة الثقيلة:
إذا كانت الجمارك تحقّق كل هذه العائدات القياسية، فأين أثرها في تخفيف الضغط الجبائي عن الفئات الأضعف؟
إذا كانت الرقمنة و”تبسيط الإجراءات” قد قطعت أشواطًا، فلماذا ما تزال المعاملة عند بعض المكاتب مرتبطة بالوسيط “المعرّف” أكثر من ارتباطها بالنص واللوائح؟
وإذا كانت مكافحة التهريب أولوية، فلماذا لا تزال بعض المواد الأساسية تدخل وتخرج خارج المساطر، لتستيقظ الأسواق من حين لآخر على موجات من المضاربة وارتفاع الأسعار؟
نعم، تُعلن الجمارك – بين الفينة والأخرى – عن عمليات ناجحة: ضبط أكثر من 18 طنًّا من الأرز المهرَّب في ولايتي كيدماغا ولبراكنه مؤخّرًا، على سبيل المثال، يعكس يقظة وحدات البحث والتدخل وقدرتها على العمل الميداني.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف وصلت هذه الكميات أصلًا إلى حافّة السوق الوطنية، ومن المسؤول عن الفترات التي تمرّ فيها الشحنات دون أن يراها أحد؟
الواقع يكشف عن مفارقة مؤلمة:
• صرامة مع “الصغار” عند النقاط الحدودية ومع المسافرين البسطاء،
• ومرونة غامضة مع “الكبار” وأصحاب النفوذ والعلاقات، عبر إعفاءات متتالية، وتسويات ميدانية لا تصل إلى الرأي العام إلا حين تنفجر فضيحة هنا أو هناك.
ملف الإعفاءات الجمركية – للسيارات الرسمية والبرلمانية وغيرها – مثال صارخ على هذا الخلل؛ فالبوابة الرسمية أصلاً تعترف بوجود هذه النظم الخاصة، لكن قائمة المستفيدين، وحجم الخسارة الجبائية الناتجة عنها، تبقى خارج الضوء.
إلى جانب ذلك، تظهر بين الحين والآخر قضايا مثيرة للجدل:
• سجالات حول كميات من الذهب تمت مصادرتها وظلّت تفاصيلها النهائية محل تشكيك وتساؤل،
• وقضايا على هامش الرحلات الجوية والإجراءات الجمركية في مطارات دول أخرى، تجرُّ معها سمعة البلد وشركاته إلى مربع الحرج، وتطرح أسئلة عن صرامة الضوابط الداخلية وثقافة احترام القانون لدى من يُفترض أنهم “واجهة الوطن” في السماء وعلى الأرض.
كل هذه الوقائع تشي بأن الخلل ليس في القانون، بل في “مزاج” تطبيقه؛ حيث يُفتح باب التأويل واسعًا أمام من يملك القوة أو المعرفة أو الهاتف المناسب.
لا يمكن إنكار أن قطاع الجمارك يعيش منذ فترة دينامية إصلاحية:
• مخططات لإصلاح المالية العامة (2021–2025) نصّت على تسهيل التجارة الدولية وتعزيز دور الجمارك،
• ورشات لتعديل قانون الجمارك وربطه بالمعايير الحديثة،
• كلام رسمي كثير عن “الشفافية” و”محاربة الفساد” و”ترقية المورد البشري”.
تعيين قيادة جديدة على رأس الإدارة العامة للجمارك نهاية 2024، قُدِّم هو الآخر كمدخل لمرحلة “نوعية” من الإصلاح وإعادة الهيكلة، ضمن رؤية عامة لعهد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في تحديث الأجهزة المالية والجبائية.
غير أن السؤال الجوهري يبقى:
هل نحن أمام إصلاح يمسّ جوهر العلاقة بين الجمارك والمواطن والسوق، أم أمام تحسين في واجهة مبنى قديم؟
الرقمنة وحدها لا تكفي إن ظلّت الخوارزميات خاضعة لـ“توصيات” الهاتف، وإن بقيت المعطيات الحقيقية عن الصفقات والتخليصات وحجم التهريب محجوبة عن الرأي العام.
والتشريعات الجديدة لا معنى لها إن تحوّل النظام الأساسي إلى شبكة لحماية امتيازات السلك وحصانته، بدل أن يكون أداة لضبطه ومساءلته.
لسنا في هذا المقال بصدد شيطنة جهاز وطني يقوم بدور حساس، ولا تجاهل الجهود الجادة التي يبذلها كثير من ضباطه وأفراده في ظروف ميدانية صعبة. لكن النقد هنا موجَّه إلى بنية عقل إداري تشبّع بثقافة الغموض، أكثر مما تشبّع بروح الخدمة العامة.
حتى تستعيد الجمارك ثقة المواطن، لا بد من خطوات شجاعة، من بينها:
1. شفافية جذرية في الأرقام والمعطيات
• نشر تفصيلي للإيرادات حسب الموانئ والمراكز والمعابر،
• إعلان حجم الخسارة الناتجة عن الإعفاءات، ومنح الرأي العام حق السؤال عن جدواها الاقتصادية والاجتماعية.
2. كشف ملف الإعفاءات والتسويات
لا يكفي أن نعرف أن هناك “إعفاءً” أو “تسوية جمركية”؛ يجب أن نعرف لماذا، ولمن، وبأي كلفة على خزينة الدولة.
3. نشر تقارير سنوية عن التهريب
تُعلن الإدارة عن عمليات ضبط متفرقة، لكنها لا تنشر بصورة منهجية تقريرًا عامًا يوضح:
• أنواع البضائع المهرّبة،
• مساراتها،
• نقاط الضعف التي استغلّتها،
• والإجراءات المتّخذة لسدّ تلك الثغرات.
4. ربط الإصلاح المؤسسي بالمحاسبة الفردية
من دون مثال واحد صارم لمسؤول جمركي كبير أُقيل أو حُوكم بسبب فساد أو تسهيل تهريب، سيظلّ حديث “محاربة الفساد” شعارًا مكرورًا لا يلامس الواقع.
5. تحويل صفحة فيسبوك من منبر دعائي إلى منصة مساءلة
بدل الاقتصار على الصور التذكارية والبيانات الوردية، يمكن أن تكون الصفحة الرسمية فضاءً لتلقي شكاوى المواطنين، والرد على استفساراتهم، وتوضيح معايير الرسوم والإجراءات، ونشر الإحصاءات بلغتهم البسيطة.
ليست الجمارك مجرد بوابة لجمع المال، ولا نقطة تفتيش عابرة في طريق المسافر؛ إنها مرآة تُرى فيها هيبة الدولة وعدالتها معًا.
حين يرى المواطن أن القانون يُطبَّق على الجميع بنفس الميزان، وأن الرسوم المفروضة تعود عليه بخدمة أو استقرار أو حماية، سيحترم الجمركي بوصفه شريكًا في صون البلد، لا مجرد حاجز يجب تجاوزه.
أما إذا ظلّت الجمارك حقل تجارب لامتيازات غير مبرّرة، وفضاءً رماديًّا بين القانون والاستثناء، فإن كل رقم قياسي في التحصيل لن يكون أكثر من لمعانٍ فوق سطح متهالك.
والدولة التي تهرب منها العدالة، ستهرب منها البضائع عاجلًا أو آجلًا… ولو كانت الجمارك على كل باب.
